الأستاذة سليمة بسرني 

 

بقلم: الأستاذة سليمة بسرني

     أفاق سؤال الكينونة في القرن العشرين من سبات دام طويلا على صوت مفكر التخفي والانسحاب مارتن هيدغر

(Martin Heidegger 1889-1976).

خرج هذا السؤال من دائرة النسيان ليكشف لنا حقيقة نمط وجود الأشياء ونمط وجود الإنسان، وهما نمطان مختلفان. هذا الكائن – هنا، الشاهد على كينونته الهاربة من أكثر شيء خاص يحددها ويحده، إنه الهارب من الموت داخل نمط العيش المشترك. دخل هذا الكائن منذ زمن الحداثة المزعومة في دائرة نمط وجود الأشياء ومازال مصرّا على البقاء فيها. فهل نستفيق في القرن الواحد والعشرين على سؤال مركزي آخر وهو: هل يحدنا الموت كقدر محتوم أم نحن هم صناع الموت؟ هل الموت أساس كينونة الإنسان أو هو قرار من صنع الكائن - هنا؟ صناعة الموت الذي كان يخشاه الإنسان القديم أصبح إنجازا علميا يتباهى به الإنسان المعاصر فهل نقول أننا بدأنا عهدا جديدا يبشر بنهاية العلوم التجريبية ومقتها لنعلي راية الأدب والشعر والفن؟ فالفنانون هم فقط صناع الحياة. ومن يفسح مجالا للعيش الجميل لا يمكن أن يكون صانعا للموت. فالفنان يخلق توازنا بين العقل والحالات العاطفية.

 هل يتراجع العقل لتتقدم العاطفة بخطوات ثابتة تجمل ما قبّحه العقل وتصلح ما أفسده؟ فالعقل التجريبي الحسابي غرضه الأول هو المنفعة وسلطة المال. فهل نقبل ديكتاتورية تجعلنا عبيدا لأرقام نهايتها أصفار؟ أم أصل الحياة هو أن نحيا عيشا جميلا متناغما؟

ما هي اللغة التي نحيا بها أهي لغة العقل الحسابي أم لغة الشعر والموسيقى؟ هل نرقص ونغني على أنغامها؟ وهل نسلك طريقها أو نمشي بخطوات مترددة غير واثقة على حافة الرصيف؟.

كل عمل فني هو شعر والقول الشعري هو أساس الكينونة، لأنّ للقول الشعري قدرة على النّفاذ إلى سرّ الكينونة. فالشّاعر بقوله يلخّص لنا الكينونة في بضع كلمات. الشاعر هو المختار، إنّه الموحى إليه من طرف آلهات الشعر les muses هو ضيف مقيم في جوارها وقريب منها. والآلهة هنا لا تحمل المعنى الذي تعوّدنا عليه وإنّما هي الحضور الدائم للاختباء. فالشاعر يميل ويرغب دائما في الاقتراب من الجانب المظلم للكينونة. فإذا عدنا إلى أصل كلمة لوغوس وهي كلمة يونانية نجدها تحمل معنى القول والإقتطاف ومعنى الوضع في حالة من الاسترخاء والراحة، فوضع الشيء في حالة راحة "يعني وضعه في مكان آمن أي في موضع الحماية؟، فالفلاح مثلا عندما يقطف المحصول فإن نتيجة الاقتطاف في نهاية المطاف هي الحفاظ عليه أو وضعه في مكان آمن، إذن نتيجة الاقتطاف هي الحماية.

هذه الحالة هي المسيطرة هنا وفيها يسكن همّ إقامة الحماية أو الرعاية أي "حماية الكينونة في القول الشعري المعني بالحفاظ عليها". 

 

الفنانون هم صناع الحياة والعلماء هم صناع الموت

إنّ الفن هو بصمة الإله في العمل الفني بينما الإنسان العالم هو الذي ينتسب إلى بروميتوس Prométhée سارق النار الإلهية والنار مقدسة وهي تحمل رموزا ومعاني كثيرة، فقد تكون مصدرا للإنارة وقد تكون وهجا مشتعلا لا ينطفأ فيحرق كل من اقترب إليه، فالإله زيوس Zeus لم يعطِ النار للإنسان ولم يكن راضيا على ما فعله بروميتوس بل عاقبه على ذلك  لأنّه بامتلاكه النار وهي مصدر التقنية يكون قد امتلك سلاحا مدمّرا يهدّد به الإنسانية  جمعاء.   

لقد أصبحنا اليوم نعيش رعبا دائما، رعبا عشش في النفوس، إنه الخوف من الموت الجماعي، فبعد أن كان الموت وضعا طبيعيا في الكينونة ومكونا أساسيا لها، أصبح اليوم عدوا خطيرا يهدد الوجود الإنساني بل أكثر من ذلك أصبح يهدد وجود العالم بأسره. أصبحنا اليوم نشعر بالهلع أمام شبح الموت المنتظر، إنه شبح فيروس كورونا الذي اقتحم العالم بأسره دون أن يفسح لنا مجالا لقبوله أو رفضه أو حتى الاستعداد له وأخذ الحيطة والحذر منه. إنها حرب ضد عدو مجهول صنعه الإنسان بيده، ليس جهلا ولكن تجاهلا منه لمعنى حقيقة الكينونة. وسأكررها مرات ومرات عديدة ولن أملّ من التكرار ليقف الإنسان اليوم في القرن الواحد والعشرين وقفة جدية يراجع فيها شريط تاريخ طويل لأنه هو الذي كان ومازال يرفض الاعتراف بأن إرادة الكينونة هي انسجام وتناغم، إرادة الكينونة هي لحن موسيقي. تماما كمن يقود فرقة موسيقية وينتج تحفة فنية دون أن يعزف على أي آلة من الآلات الموسيقية ولكن ماذا لو عزف (رفض) الموسيقيون الامتثال لإرادة قائدهم وذهب كل واحد يعزف في حرية تامة؟ النتيجة ستكون حتما نشازا تقشعر لسماعه النفوس. إنها الفوضى العارمة التي نعيشها اليوم.

منذ أفلاطون دخل العالم دائرة العقل المغلق إنها دائرة اللاعقل. فالإنسان ليس عقلا فقط فللعقل مجاله وللحس والعاطفة مجال آخر ولهذا وجب أن نميز بينهما دون أن نجعل من كل واحدة نقيض الأخرى، فالإنسان وحدة كاملة ومتوازنة هو في حاجة لملكة العقل قدر احتياجه لملكة الحس والعاطفة ولا يمكنه أن يشكل وحدة إلا بتصالح المتضادين ولأنه كائن يتميز بالفهم والقدرة على الكلام كان عليه أن يفكر بكليته حتى يكون فكره فكرا متناغما، فهو الكائن الوحيد الذي يملك الإيقاع ولكنه فقده حين ازدرى الوجدان ليرفع من مقام العقل عاليا. في عصرنا هذا تجاوز العقل كل التوقعات الممكنة وأصبح إنتاج العقل في تسارع رهيب لا نعرف إلى أين وكيف سينتهي، ولكن ربما نحن اليوم على مشارف النهاية. نهاية العقل رسمتها لعبة الموت الجديدة التي يحكم خيوطها فيروس الكورونا. ولن ينجو منها إلا من كان يعيش بالقرب من الكينونة الأصلية. من كان فقط في جوارها. من كان يسمع نداءها ويردده هو الوحيد الذي يرعاها ويحفظ انسجامها ويحترمه. إن التسارع الرهيب للتقنية سيدخل في تباطؤ مخيف. بدأ العالم اليوم يحسب خطواته المترددة بين الحركة والراحة. فالكائن ليس شيئا أمام غموض الكينونة. هذا الكائن ليس ولن يكون سيدا لا للكائن ولا للكينونة، والدليل على ما نقوله يشهد عليه التاريخ الذي كتب لنا عن أزمنة مضت ولكننا لم نعتبر ولم نتراجع عن عقل ما يزال يبحث رغم كل الأزمات التي مرّ بها عن الرفاهية والسيادة.

 

الميثولوجيا ودورها التعليمي (الميثولوجيا تعلمنا فن الإنصات)

كل فن في الأصل هو شعر وهو بصمة الكينونة في العمل الفني

إنّ الشعر عمل فني يعبّر عن الكينونة بامتياز. فعندما نقول شعرا ننتج فنا وعندما نصنع فنا ننتج جمالا فهل نعيش شعريا في محبة وسلام واحترام؟ هل نرجح كفة القول الشعري أو نبقى مقيدين بخطابات العقل؟

 

الفكر الميثولوجي

إن العقل الميثولوجي المعترف بعجزه عن تفسير الغموض الموجود في الطبيعة لجأ إلى القول الشعري لأنه تعبير عن العلاقة بين الكلمة والنغم. إنها علاقة قوية وأصيلة بين الفكر كلغة والنغم كعاطفة ليكشف شاعرية وحقيقة طاغية في القول ويمكن أن نقدم أمثلة كثيرة بالعودة لتلك الأشعار التي تحدت الزمن والموت وعاشت لآلاف السنين وستبقى. الشعر لا يحده مكان ولا زمان، فالشعر أقوى بكثير من قوة الموت. ففي الميثولوجيا المصرية كان نهر النيل مقدسا لأن الماء هو أصل الحياة وفي الميثولوجيا اليونانية تظهر جليا في أشعار هيزيود قدسية الأرض لأنها الأم قايا γαια التي تمنحنا الحياة وفي أشعار هوميروس Homère  نلمس واقع الإنسان المرير في الحرب، فالحرب فوضى والفوضى لا تبني مكانا أو نظاما للعيش بل هي الحطام هي اللانظام هي اللاانسجام، فهل نجتاز الصعاب التي اجتازها أوديسيوس Ulysse لنصل أخيرا إلى مأوانا الأصلي الذي حددته لنا الكينونة الأصلية أم هو العصيان الأبدي الذي يتباهى به الإنسان العالم المتقدم بالعقل الحسابي غير مدرك أنه  يمشي في طريق هلاكه وهلاك الإنسانية جمعاء، فبالرغم من أن الموت يجمعنا ولا يفرقنا فالموت أكثر شيء موزع بالتساوي بين الناس، إلا أن الحياة تفرقنا وهو المطلوب، فالبناء لا يبنى أبدا على التراكمات المتشابهة، فالفنان الرسام يحمل ريشة وألوانا أما الشاعر فيخاطبنا بكلمات الميثوس μυθος والفنان الممثل على خشبة المسرح يحرك عاطفتنا بالباثوس παθος فلكل أدواته وخصوصياته فهل ندخل دائرة التماثل والتمثيل رغم الاختلاف والتنوع فقط لأن العقل الحسابي يريد ذلك؟ أونحمي اختلافاتنا ونبني عوالم بدل العالم الواحد الذي قدم لنا في قوالب جاهزة؟ فلا داعي لأن نفكر أو نشعر أو نختار بحرية وكرامة وكأننا أشياء وجدت فقط لتستعمل لغاية رسمها العقل الأداتي. إن الإنسان مريض إذا لم يكن كائنا موسيقيا هو كائن بلا مأوى إن لم يقم على الأرض شعريا. وضع الكلمات في قالب موسيقي أو كتابة الموسيقى على شكل كلمات هي تعبير عن العلاقة بين الشاعر والمفكر فكل مفكر عظيم لابدّ أن يكون شاعرا عظيما هذا النوع من الفكر نادر وحتى الفلسفة أو التفكير الفلسفي لا يمكنه أن يتحقق إلا استعاريا أي عن طريق لغة الإشارات. ولهذا فإن كل بحث حقيقي يتطلب العودة إلى الخلف، إنها العودة إلى فجره الأول، فإن الشيء الأكبر والأكثر جمالا والأكثر قمة وعلوا الموجود في كل شيء هو أصله والأصل موجود في اللغة الشاعرية أي في الفن، وأكبر مثال على ذلك الرسومات الموجودة منذ آلاف السنين في جبال التاسيلي Les peintures rupestres، فالإنسان يعود إلى البداية ليفهم الأخطاء التي وقع فيها، وما الفن إلا علم آثار الإنسان، فالغرض من ميتافيزيقا البداية هو الوصول إلى علم النهايات téléologie ، نحن نريد التقبض على الكينونة في حالة انبثاق. نحن نريد أن نفهم الشعر فمهما قال الفن فهو لن يقول إلا الأصل أو لن يتحدث إلا عن أصله. ولهذا يقول هولدرلين: إنه من الصعب أن يترك المكان من كان يعيش بالقرب من الأصل.

 

 

 

modal